تعليق على مقال اللاعنف
تعليق
نشكر الأستاذ
الباحث سام بوسو عبد الرحمان على هذا المقال القيم الذي أماط فيه اللثام عن موضوع في غاية الأهمية
وعالجه مُعالجةً جادّةً، وبعدُ:
فإن اختيارَ الشيخ الخديم –رضي الله عنه- اللاعنف كمنهجٍ دفاعيٍّ جهاديٍّ، ونبْذَهُ
العنف كُليًّا لَمِنَ البيِّناتِ الدالة على ألمعيته وعبْقريّتِهِ، فقد كان ذلك عن
تَبَصُّرٍ ووعْيٍ وعن إيمانٍ قويٍّ بالنُّصرةِ والتمكين وإدراك منه أنّ الله
مُدافعٌ عن الذين آمنوا وأنهُ مُخْزي الكافرين عاجلاً أو آجلاً. فقد يحسبُ من عندهُ ذُهولٌ عن الفكْرِ الخديميّ
النيّر أن سبب تَبَنِّيهِ هذه الطريقةَ المثْلَى يَؤُولُ إلى خوفٍ من سطوة
الاستعمار القاسية أو خَشْيَةٍ مما كان في حَوْزَتهِمْ منْ أسلحةٍ فَتَّاكةٍ مُدمّرةٍ
أو من تَوقّعٍ للفشلِ والانهزامِ كما وقع لسَالِفيْهِ أمثال الشيخ عُمرْ،
ومَبَهْ جَخُ بَهْ...إلخ، فكل ذلك لم يكنْ يخطر يومًا ببال الشيخ- رضي الله
عنه-، وما هُوَ إلا تَقولاتٌ وتخميناتٌ لا تستند إلى أَصلٍ أَصِيلٍٍ ولا إلى رُكنٍ
ركينٍ، ويتبين بطلانها من ناحيتين:
الأولى: إن قياس الشيخ
الخديم- رضي الله عنه- بسالفيه لَمِمَّا تَشْمَئِزُّ منهُ الطباعُ السليمةُ
ومما لا نقبلُهُ جملةً وتفصيلاً، فَلَشَتّان ما بينه وبينهم؛ فالشيخ كان يجاهد
لوجه الله تعالى، كما بيّن ذلك بقوله:[من الكامل]
ومقالكم
إني أُجاهدُ صادقٌ |
إني لوَجْهِ الله جلَّ أُجاهدُ[1] |
وإذا أنعمنا النظر
فيمن سَلفوهُ من بني جِلْدتِه نعلم أن جلَّهمْ كانوا يقاتلون من أجل الغنائم أو
لاسترداد مُلْكٍ مفقودٍ أو بدوافع عصبيةٍ أو للاستحواذ على أموال الناس بغير حق.
ومن كان هذا ديدنه فليس بمستبعدٍ أن ينهزم أمام الكتائب الاستعمارية أسوأَ
انهزامٍ.
وعلى ذلك فإن
ما قيل من قوة المستعمر ساعَتئذٍ وكمالِهِ الاستراتيجي وأن كل من سيتصدى لهُ
سيُفَلُّ جمعُهُ ليس بالأمر المطّرد ولا بالمعوَّل عليه، فوَحْدةُ المريدين
وقُوّةُ عزائمهم وتنازعُهُم للموت وشجاعتُهُم لَكَافيةٌ لاستئْصالِ شأفة المستعمِر
من جُذُورها، فهُمْ بحقٍّ أشدّاءُ على الكُفّار، رُحماءُ بينهُم، «أُسودٌ على الأعداء، مصابيحُ في الدجى »، لو سمعوا هَيْعةً أو فزْعةً لطاروا إليها زرافاتٍ
ووحداناً، ولنفَرُوا إليهَا خفافاً وثقالاً، وتلك الهمة العالية والعزيمةُ
الماضيةُ والصريمةُ المحكمَةُ هي التي يُصوّرُها الشاعرُ القاضي مَجَخَتِ كَلَ
حين يقول في شأنهم:[من الطويل]
وتَاللهِ لَوْ أنَّ الْمُرَبِّيَ
قادَهُمْ |
ليَنْفواْ عن الأرضِ العِدَى زَلزلُوا الأرضا[2] |
الثانية: إن المفكّرَ
البَوَليَّ الفذّ مولانا الشيخ الخديم كان يُوقنُ أيّ إيقانٍ أنه لن
ينهزم أبدا أمام العُلُوج الاستعمارية سواء اتخذ المنهج العنفيّ أي الجهاد
بالأرماح، أم اللاعنفيّ أي السلميّ، جَزمًا مِنْهُ بقوله تعالى: (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا)[الحج:38]، وقوله: (ولن يجعل الله للكافرين
على المؤمنين سبيلا)[النساء:149]، لذلك فإنه كان على دِرايةٍ تامّةٍ أنه سيُهْزَم الجمع ويولّون
الدبر، فقال:[من الرجز]
لهُمْ عذابٌ بعْدَ مَقتٍ قَد كَبُرْ |
ويُهزمُونَ ويُوَلٌّونَ الدُّبُرْ[3] |
وبما أنه كانَ
ذا ثقةٍ وثِيقَةٍ بأنَّ هذا المسلك اللاعُنفي أعمُّ نفعاً وأكثر فَيْداًً فلقد آثره
على غيره بتصريحه قائلا:[من الكامل]
إني أُجاهدُ بالعلوم وبالتُّقى |
عبدًا خديمًا والمُهيْمن شاهدُ[4] |
وقال أيضا:[من الرجز]
أُجاهدُ الكُفار بالآياتِ |
وَبالأحاديثِ بلا التفاتِ |
بناءً على
ذلك نجده يصدع بصوتٍ جَهْوريٍّ عَالٍ مُعلنًا أن أفكارَه وآراءه - والتي استمدها
من النفَحَات الربّانية والفُيُوضات الإلهيّة التي هيَ نتيجة تجاربِه المثيرة ومن
مكثه الطويل بين ظهرانيهم- إذا دسّها في الصفّ الاستعماري أوهنت قواهُ وهزمتْهُ
هزيمةً نَكْرَاءَ، وذلك معنى قوله:[من الرجز]
نَاجَانيَ الوَاسِعُ في تفكري |
وَفِكَرِي هَازِمَةٌ لِعَسْكَرِ[5] |
وتجدر
الإشارة هنا إلى أنّ التعبير بالجملة الاسمية – كمَا لا يعزُب ذلك عن ذي إِلمامٍ بلغة
الضادِ- أوْكَد من التعبير بغيرها وأقْوى، مما تُومئُ إلى القُوّة الهائلة التي
تختبئُ وراء هذا الفكر الخديميّ والأثرِ البالغ المدمِّر الذي يمكن أن يخْلِفَهُ
في صفوف الأعداء، ومن صعيدٍ آخرَ فهذه الأفكار لها الإمْكانِيةُ الكفيلة بحل
المشاكل التي يُعاني منها المجتمعُ السنغالي خُصُوصًا، والمجتمعاتُ الإسلاميةُ
عُمُومًا. لأنّ تشييدَ الأممِ والحضاراتِ وبناءََها إنما يكون قوامُها على
المعنويات من فكر سليم وخُلُقٍ قويمٍ وسلُوكٍ حسنٍ لا على الماديات كما يحْجُو
الغربُ، وإن أيّ حضارةٍ مبنيةٍ على هذا اللُّعاع مآلها الفشل الذريع والزوال
السريع.
هذا وإذا
أراد المريدون أن يحافظوا على النهجِ الخديمي من غير وكْسٍ ولا شطَطٍ، ويطبقوا
تعاليمه دون ميلٍ ولا غلطٍ، فسوف يكون لزامًا عليهم أن ينبُذُوا العُنف بِالعراء،
وألاّ يكون له ضلعٌ في أفكارهمْ وأقوالهم وأفعالهم، وأن يعاملوا الناس بالحسنى
ويقولوا لهم قولا لينا حتى يفهموا الرسالة الخديمية على صورتها الصحيحة؛ فالضربُ
والتعدّي على الآخرين والإخلال بالأمْنِ والتمرُّد على الأعْراف شِنْشِنَةٌ لا
نعرفها منهمْ، لذلك يتحتم عليهم أن يحتاطُوا أي احتياطٍ حتى لا يتذرّع أعداء
المريدية بهذه الثغرات والهنّات إلى الطعن فيها وفي المؤسِّس، سيراً على السَّنن
الذي كان عليه الشيخ- رضي الله عنه- ونجالُهُ وأتباعُهُ الذين استنوا بنهجه
القويم، وبذلك فقط – من وجهة نظرنا الخاصة- يستتبُّ الأمنُ في المجتمع وينأى عنه كل
صنُوف الصَّخَبِ والضَّجيجِ.
* * * * * * * * * * *
أبو
مدين شعيب تياو الأزهري الطوبوي
كلية
الآداب والعلوم الإنسانية
شعبة
اللغة العربية وآدابها
تطوان/المغرب
madyanaabo@gmail.com
[1] - انظر قصيدة الشيخ التي مطلعها:(يا جملة قد ثلثوا).
[2] - من قصيدة القاضي مجخت كل التي مطلعها:(مربون قد غضوا منَ اصواتهم غضا)، وللوقوف على فحاواها
اقرأ التحليل الذي قام به الأستاذ الباحث سام بوسو عبد الرحمان.
[3] - انظر قصيدة الشيخ المطرزة بقوله تعالى:( إن
الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد).
[4] - انظر قصيدة
الشيخ التي مطلعها:(يا جملة قد ثلثوا)، والتحليل
المتواضع الذي قام به الكويتبُ.
[5] - انظر قصيدة الشيخ المطرزة بقوله تعالى:(ألم، وإذا لقوا، سيقول، واذكروا الله، تلك الرسل فضلنا).